بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف
الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم.
أما بعد،
فإن الأصوليين في العهد الأول كالشافعي ومن كان معه ما
كانوا أن يضعوا مصطلحا معينا مضطردا في كل المسائل التي تناولوها من الكتاب والسنة
لاستنباط الأحكام واستخراجها وتنزيلها في النوازل، وبالرغم من ذلك كان مجال
الاستنباط والاستدلال ظاهرة وحاضرة بالقوة لدى الفقهاء في ذلك الزمان، ولذلك نجد
عباراتهم للإشارة إلى حكم ما غير مقيدة وقد يقتضي هذا وذاك، ولا يكون على نسق
واحد. وسرعان ما بعد هذا الزمان نضج علم الأصول وجاء العلماء الأصوليون كالجويني
والغزالي والقرافي والرازي والشاطبي وغيرهم ليضعوا الضوابط والقواعد في كتب الأصول
تعبّ وتشير إلى دلالة الأحكام من النص لا سيما في مبحث الدلالات ليكون أكثر محكما
ومرتبا.
ولكون القرآن الكريم هو المصدر الأساسي الأول للشريعة
الإسلامية والسنة مكملة له فكان من الضرورة أن يهتم العلماء قديما وحديثا
ويجتهدون في بيان الأحكام المطوية في القرآن الكريم، ومن أجل ذلك كانوا يعنون
بكتابة تفسير الأحكام، ومن بين هذه المصنفات منها؛ أحكام القرآن لابن الفرس
والجصاص والكياالهراسي وغيرها كثيرة جدا.
وبالتالي، يمكن نطرح السؤال هنا هل يستلزم المفسرون
الأوائل أو المتأخرون أو المعاصرون أن ينصوا في تفاسيرهم الدلالات الأصولية التي
حددها الأصوليون ووضعوها حيث إذا أُطلقت تدل على الدلالة الوضعية الاصطلاحية أم
لا؟ وبهذا تأتي هذه الوُريقات لتتبع طرق دلالة الآيات على الأحكام عند المفسرين
لنخلص على السؤال الذي طرحناه. وعليه كُلّفتُ لأشتغل في هذا الموضوع من قوله
تعالى:
ﭐ ﱡﭐ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ
ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﱠ البقرة:
237.
المعنى
الإجمالي للآية:
ذكر
تعالى حكم المطلّقة قبل الفرض والمسيس، فرفع الإثم عن الطلاق قبل الدخول، لئلا يتوهم
أحد أن الطلاق في هذه الحالة محظور، وأمر بدفع المتعة لهن تطيباً لخاطرهن، على قدر
حال الرجل في الغنى والفقر، وجعله نوعاً من الإحسان لجبر وحشة الطلاق، وأمّا إذا كان
الطلاق قبل المساس وقد ذُكر المهر، فللمطلّقة نصف المسمّى المفروض، إلا إذا أسقطت حقها،
أو دفع الزوج لها كامل المهر، أو أسقط ولي أمرها الحق إذا كانت صغيرة.
ثم
ختم تعالى الآيات بالتذكير بعدم نسيان المودة، والإحسان، والجميل بين الزوجين، فإذا
كان الطلاق قد تمّ لأسباب ضرورية قاهرة، فلا ينبغي أن يكون هذا قاطعاً لروابط المصاهرة
ووشائج القربى. (روائع البيان تفسير آيات الأحكام للشيخ محمد علي الصابوني ج1
ص371).
نماذج
أقوال المفسرين في بيان دلالة الآية على الأحكام
يقتضي
في هذا المقام تصنيف طرق دلالة الآية على الأحكام عند المفسرين على حسب المذاهب
الفقهية، وبالتالي يمكن أن نلاحظ مدى التطور الحاصل داخل المنظومة الفقهية الواحدة
واختيارات المسفرين التي قد تخالف أصول مذهبهم.
المذهب
الشافعي
الأم
الشافعي(ت204ه)
·
ﱡوَإِن
طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ .. ﱠ ويحتمل
أن يكون يجب بالعقدة وإن لم يسم مهرا ولم يدخل ويحتمل أن يكون المهر لا
يلزم إلا بأن يلزمه المرء نفسه أو يدخل بالمرأة وإن لم يسم لها مهرا فلما احتمل
المعاني الثلاث كان أولاها أن يقال به ما كانت عليه الدلالة من كتاب الله أو سنة
أو إجماع...
·
فدلت
هذه الآية على أن على الرجل أن يسلم إلى المرأة نصف مهرها كما كان عليه أن يسلم
إلى الأجنبيين من الرجال ما وجب لهم، ودلت السنة على أن المرأة مسلطة على
أن تعفو من مالها وندب الله عز وجل إلى العفو...
استنتاج
- قال: (فدلت هذه الآية على أن
على الرجل أن يسلم إلى المرأة نصف مهرها...) وقد يكون المقصود من مفهوم الآية عبارة
النص.
-
استعمل
الإمام الشافعي مصطلح الاحتمال الذي يرادفه المجمل وهو ما استوت فيه
الاحتمالات فلم يظهر له معنى.
أحكام
القرآن للكياهراسي (ت504ه)
·
فلو
كان الأول بمعنى ما لم تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة أو لم تفرضوا، لما عطف عليها
المفروض لها، فعلم أن معناه: ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة، فيكون أو بمعنى
الواو. وقال تعالى في مثله: ﱡ وَلَا تُطِعۡ
مِنۡهُمۡ ءَاثِمًا أَوۡ كَفُورٗا ٢٤ ﱠ وقال:
ﱡوَإِن
كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ ﱠ
معناه: وجاء أحد منكم من
الغائط وكنتم مرضى أو مسافرين. وهذا موجود في اللغة، وهو في النفي أظهر من
دخولها عليه بمعنى الواو مثل ما قدمناه من قوله: ﱡ وَلَا تُطِعۡ مِنۡهُمۡ ءَاثِمًا أَوۡ كَفُورٗا ٢٤ ﱠ
·
قوله
تعالى: ﱡوَإِن
طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ .. ﱠ المراد
بالفرض ها هنا، تقدير المهر وتسميته في العقد، وإنما فهم منه الفرض في
العقد، لأنه ذكر المطلقة التي لم يسم لها فرضا بقوله تعالى: ﱡإِن طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ أَوۡ
تَفۡرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ ﱠ وذلك يقتضي أن يعقب بذكر من فرض
لها في العقد وطلقت.
·
وقوله
تعالى: ﱡفَنِصۡفُ
مَا فَرَضۡتُمۡﱠ يتناول بطريق العموم ما بعد العقد ولو توهم متوهم، أن فيما
قبله ما يمنع من هذا العموم، فليس كذلك، فإن ما قبله عدم الفرض مطلقا، وما
بعده إثبات الفرض، وإثبات الفرض يعم الأحوال. ولو كان النص على
المفروض عند العقد، كنا نلحق به المفروض بعد العقد بطريق الاعتبار، مثل إلحاق
الشيء، بمثل ما في معناه...
· قوله تعالى: ﱡ إِلَّآ أَن يَعۡفُونَ ﱠ معناه: الزوجات يكون عفوها أن تترك الصداق، وهو النصف الذي جعله الله
تعالى من بعد الطلاق... فقال الشافعي: «في هذا دلالةٌ على جواز هبة المشاع
فيما ينقسم وفيما لا ينقسم، لإباحة الله تعالى تمليك نصف المفروض الثابت بعد الطلاق»
... نعم: العفو كناية عن التمليك فتقديره: إلا أن يهبن نصف المهر ويتركنه على
الأزواج، فكان اللفظ عاما في جميع ما كان صداقا... فلئن لم يتعرض كتاب الله
تعالى لشروط العفو، فدلالته على أن ما دخل تحت الصداق يجب أن يدخل تحت
العفو قائمة.
·
ولا
شك بأن قوله: ﱡبِيَدِهِۦ
عُقۡدَةُ ٱلنِّكَاحِۚ ﱠ محتمل للوجهين اللذين تأولهما
السلف عليهما، فينظر في أقرب الوجهين إلى معاني الشرع والأصول المحكمة، التي ترد
المتشابهات إليها، وقد قال تعالى: ﱡوَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ
صَدُقَٰتِهِنَّ نِحۡلَةٗۚ فَإِن طِبۡنَ لَكُمۡ عَن شَيۡءٖ مِّنۡهُ نَفۡسٗا
فَكُلُوهُ هَنِيٓٔٗا مَّرِيٓٔٗا ٤ ﱠ فذكر تركه الصداق عليها، وتركها الصداق عليه. فاللائق بالبيان
ها هنا أيضا: أنه إذا ذكر العفو من أحد الزوجين، ذكر من الزوج الآخر وقال تعالى:ﱡ
وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجٖ مَّكَانَ زَوۡجٖ
وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيًۡٔاۚ ﱠ
·
قوله:
ﱡ
أَوۡ يَعۡفُوَاْ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ عُقۡدَةُ ٱلنِّكَاحِۚ ﱠ
يقتضي كون العقد موجودا في يد
من هو في يده، فأما عقد غير موجود، فليس في يد أحد.
·
وأما
ما يتعلق بقياس الأصول فبين، غير أن أقوى ما يرد عليه، أنا إذا تنازعنا
معنى اللفظ، وقوله ﱡ
بِيَدِهِۦ عُقۡدَةُ ٱلنِّكَاحِۚ ﱠ يبعد أن يراد به الزوج وقد طلق قبل المس، وإنما يظهر ذلك في
الولي الذي بيده أن يعقد النكاح، وقال تعالى: ﱡ وَلَا تَعۡزِمُواْ عُقۡدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ ٱلۡكِتَٰبُ
أَجَلَهُۥۚ ﱠ ويجاب عنه بأن
قوله: ﱡ
بِيَدِهِۦ عُقۡدَةُ ٱلنِّكَاحِۚ ﱠ يبعد
فهم الولي منه، بالإضافة إلى عقد كان، فإن إلى الولي أن يعقد عقدا آخر غير الأول،
وبيده أن يعقد عقدا غير موجود، وليس بيده عقدة معدومة، وثبوت الولاية له في أن
يعقد عقدا آخر، لا يقتضي جواز عقده في نكاح مضى، وليس بيده ما قد مضى، ولا
كان الذي مضى بيده عقدته عند وجوده، وهذا ظاهر كما ترى.
· قال تعالى: ﱡ
فَنِصۡفُ مَا فَرَضۡتُمۡ إِلَّآ أَن يَعۡفُونَ أَوۡ يَعۡفُوَاْ ﱠ اقتضى ذلك من حيث الظاهر، أن يكون عفوهن وعفو الذي
بيده عقدة النكاح، راجعا إلى النصف المذكور، وهذا يدل على بعد حمل المطلق على
الزوج.
استنتاج
-
الكياالهراسي قد استعمل مجموعة
من المصطلحات الأصولية الدالة على مرتبة من مراتب الدلالة منها اللفظ: العام
والظاهر والاقتضاء والمتشابهات والمحتمل والنص والمفهوم والبيان.
-
يورد لفظ
"الدلالة " بمعنى الإشارة (غير المقصود) إلى لشيء، وذلك في قوله: وفي هذا ﱡ إِلَّآ أَن يَعۡفُونَﱠ دلالةٌ على جواز هبة المشاع فيما
ينقسم وفيما لا ينقسم...
فخر الدين الرازي
مفاتيح الغيب (ت606ه)
·
قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ
فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُم)ْ فَقَوْلُهُ: فَنِصْفُ مَا
فَرَضْتُمْ لَيْسَ كَلَامًا تَامًّا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ آخَرَ
لِيَتِمَّ الْكَلَامُ، فَإِمَّا أَنْ يُضْمَرَ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ سَاقِطٌ،
أَوْ يُضْمَرَ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ثَابِتٌ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَقْصُودُ،
وَالثَّانِي مَرْجُوحٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى
الشَّيْءِ بِكَلِمَةِ إِنْ عُدِمَ ذَلِكَ الشَّيْءُ ظَاهِرًا، فَلَوْ
حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوُجُوبِ تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِقَضِيَّةِ التَّعْلِيقِ،
لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْفِيٍّ قَبْلَهُ... وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ
فَرِيضَةً يَقْتَضِي وُجُوبَ كُلِّ الْمَهْرِ عَلَيْهِ... لِأَنَّ عِنْدَ
قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِوُجُوبِ الْكُلِّ كَانَ الظَّاهِرُ هُوَ وُجُوبَ
الْكُلِّ، فَكَانَ سُقُوطُ الْبَعْضِ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ الْمُحْتَاجَ
إِلَى الْبَيَانِ...
· وُجُوبِ إِيتَاءِ كُلِّ الْمَهْرِ قَدْ تَقَدَّمَتْ كَقَوْلِهِ: (وَلا
يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) فَحَمْلُ
الْآيَةِ عَلَى سُقُوطِ النِّصْفِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى وُجُوبِ
النِّصْفِ...
· وَرَابِعُهَا: وَهُوَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ
الطَّلَاقُ قَبْلَ الْمَسِيسِ، وَكَوْنُ الطَّلَاقِ وَاقِعًا قَبْلَ الْمَسِيسِ
يُنَاسِبُ سُقُوطَ نِصْفِ الْمَهْرِ، وَلَا يُنَاسِبُ وُجُوبَ شَيْءٍ، فَلَمَّا
كَانَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ مَا يُنَاسِبُ السُّقُوطَ، لَا مَا يُنَاسِبُ
الْوُجُوبَ كَانَ إِضْمَارُ السُّقُوطِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا اسْتَقْصَيْنَا
فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ:
فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ وَاجِبٌ، وَتَخْصِيصُ النِّصْفِ بِالْوُجُوبِ لَا
يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ النِّصْفِ الْآخَرِ، إِلَّا مِنْ حَيْثُ دَلِيلُ
الْخِطَابِ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فَكَانَ
غَرَضُنَا مِنْ هَذَا الِاسْتِقْصَاءِ دَفْعَ هَذَا السُّؤَالِ.
استنتاج
-
من
بين المصطلحات الدلالية الواردة في تفسير الرازي للآية دليل الخطاب والتخصيص
ومفهوم الأولى والبيان والمقصود والظاهر والمرجوح.
- استعمل الرازي مصطلح الأظهر لترجيح اختياره الفقهي على باقي الأقوال
الأخرى.
أنوار التنزيل
وأسرار التأويل للبيضاوي (ت685ه)
·
ﱡوإِن طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدۡ
فَرَضۡتُمۡ لَهُنَّ فَرِيضَةٗ ﱠ قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: هي درع وملحفة وخمار حسب الحال إلا أن
يقل مهر مثلها عن ذلك فلها نصف مهر المثل، ومفهوم الآية يقتضي تخصيص إيجاب المتعة
للمفوضة التي لم يمسها الزوج.
استنتاج
- استعمل
البيضاوي مصطلح دلالة إشارة النص حيث يعقل من دلالة الكلام على معنى لم
يقصد من السياق أصالة وتبعا ولكنه لازم للمعنى الذي سبق الكلام لإفادته.
المذهب
المالكي
أحكام القرآن لابني
العربي (ت543ه)
· إنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الْمَسِيسِ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَإِنْ
خَلَا بِها، وَلَا تَضُرُّ الْخَلْوَةُ بِالْمَهْرِ، إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَسِيسٌ
فِي مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَتَقَرَّرُ الْمَهْرُ بِالْخَلْوَةِ؛ وَظَاهِرُ
الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ.
· فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَجِبْ بِالْعَقْدِ، وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: (وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً
فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) وَخِلَافُ الْقِيَاسِ أَيْضًا...
· فِي الْمُخْتَارِ: وَاَلَّذِي تَحَقَّقَ عِنْدِي بَعْدَ الْبَحْثِ وَالسَّبْرِ
أَنَّ الْأَظْهَرَ هُوَ الْوَلِيُّ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ) إلَى قَوْله تَعَالَى: (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ
فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) فَذَكَرَ الْأَزْوَاجَ وَخَاطَبَهُمْ بِهَذَا الْخِطَابِ...
· قال القاضي ابن العربي: هذا الانفصال إنما يستمر بظاهره على أصحاب الشافعي
الذين يشترطون في الهبة القبض.
·
وأما
أصحاب الشافعي فلا يصح لهم هذا معهم من طريق أخرى، وهي أن الآية بمطلقها تفيد
صحة هبة المشاع، مع كونه مشاعا، وافتقار الهبة إلى القبض نظر يؤخذ من دليل يخص
تلك النازلة، فمشترط القسمة مفتقر إلى دليل...
استنتاج
-
استعمل
ابن العربي مجموعة من المصطلحات الأصولية التي تدل على مرتبة من مراتب الأدلة
منها: الدليل والظاهر والمطلق.
-
يورد
ابن العربي مصطلح الدليل بمعناه اللغوي أي البيان والتوضيح حيث قال: فمشترط
القسمة مفتقر إلى دليل...
-
وقد
يستعمل مصطلح الظاهر وأراد منه معناه اللغوي مثل قوله: (وهذا خلاف الظاهر
من قوله تعالى...) وفي محل آخر أراد منه دلالة أصولية وهو ما دل على المعنيين
أحدهما أظهر من الآخر.
أحكام القرآن لابن
الفرس (ت543ه)
· (مسألة عقد النكاح من غير ذكر الصداق) فقال أبو حنيفة: لا يتنصف بالطلاق؛
لأنه لم يجب بالعقد، وهذا خلاف الظاهر من قوله تعالى: (وإن طلقتموهن من قبل
أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) ...
· (مسألة من بيده عقدة النكاح) وقوله تعالى: (أو
يعفو الذي بيده عقدة النكاح) لا يتصور الإسقاط فيه إلا من الولي؛ فيكون معنى اللفظ
الثاني هو معنى اللفظ الأول بعينه، وذلك أنظم للكلام...
· (مسألة هبة المشاع في الصداق) وقال أبو حنيفة:
لا تصح هبة المشاع إلا بعد القسمة، والذي انفصل به المهر عن عموم الآية...
· فأما المعين فلا يكمل العفو فيه إلا بقبض متصل به... فنحن لا نشترط إلا تمامه، وتمامه بالقسمة، فآل الاختلاف إلى كيفية القبض... قال القاضي ابن العربي: هذا الانفصال إنما يستمر بظاهره على أصحاب
الشافعي الذين يشترطون في الهبة القبض.
استنتاج
-
يلاحظ
أن هناك المصطلحات الأصولية الواردة من خلال تفسير ابن الفرس للآية ما يأتي: العموم،
ودليل الآية والظاهر.
-
وقد
يورد ابن الفرس لفظ العموم بمعنى الظاهر حين قال: (لا تصح هبة المشاع إلا بعد القسمة،
والذي انفصل به المهر عن عموم الآية) أي في ظاهر الآية لا تصح هبة المشاع
لأنها غير مذكورة في الآية وتخالف ظاهر الآية.
-
وقوله:
(فيكون معنى اللفظ الثاني هو معنى اللفظ الأول بعينه) يدل على عبارة النص.
البحر المحيط لأبي
حيان الأندلسي (ت745ه)
· (ومتعوهن) أي: ملكوهن ما يتمتعن به، وذلك الشيء يسمى متعة. وظاهر هذا
الأمر الوجوب، وروي ذلك عن: علي، وابن عمر، والحسن، وابن جبير، وأبي قلابة،
وقتادة، والزهري...
· فنصف ما فرضتم، معناه: عليكم نصف ما فرضتم في كل حال إلا في حال عفوهن
عنكم، فلا يجب، وإن كان التقدير: فلهن نصف فالواجب ما فرضتم، فكذلك أيضا وكونه استثناء
من الأحوال ظاهر...
· وظاهر قوله: (إلا أن يعفون) العموم
في كل مطلقة قبل المسيس، وقد فرض لها، فلها أن تعفو. قالوا: وأريد هنا بالعموم
الخصوص، وكل امرأة تملك أمر نفسها لها أن تعفو، فأما من كانت في حجاب أو وصي فلا
يجوز لها العفو...
استنتاج
-
أبو
حيان يكتفي بذكر المعنى اللغوي للدلالة، وهو الأكثر حسب ما وقفت عليه، مثاله:
الظاهر وذلك في قوله: (وظاهر هذا الأمر الوجوب). وكما أنه يورد مصطلح العموم على
معناه الاصطلاحي "(إلا أن يعفون) العموم في كل مطلقة قبل المسيس".
التحرير والتنوير
للعلامة الطاهر ابن عاشور (ت1393ه)
· ﱡﭐ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ... ﱠ فالمقصود من الآية تفصيل أحوال دفع
المهر أو بعضه أو سقوطه، وكأن قوله: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن
إلى آخره تمهيد لذلك وإدماج لإباحة الطلاق قبل المسيس...
· وقد أفادت الآية حكما بمنطوقها وهو أن المطلقة قبل البناء إذا
لم يسم لها مهر لا تستحق شيئا من المال، وهذا مجمع عليه فيما حكاه ابن العربي...
· والآية دلت على مشروعية أصل الطلاق، لما أشعرت بنفي الجناح عن
الطلاق قبل المسيس وحيث أشعرت بإباحة بعض أنواعه: بالتصدي لبيان أحكامها...
· ﱡﲿ ﳀ ﳁ ﳂﳃ ﱠ فهو
ذكر، وهو غير المطلق أيضا، لأنه لو كان المطلق، لقال: أو تعفو بالخطاب، لأن قبله وإن
طلقتموهن ولا داعي إلى خلاف مقتضى الظاهر...
استنتاج
-
يورد
الطاهر ابن عاشور لفظ المقصود بمعنى عبارة النص (فالمقصود من الآية تفصيل
أحوال دفع المهر أو بعضه أو سقوطه).
-
كما
أنه استعمل لفظ المنطوق للإشارة إلى مفهوم المخالفة، وذلك في قوله:(وقد أفادت الآية
حكما بمنطوقها وهو أن المطلقة قبل البناء...)
المذهب
الحنفي
أحكام القرآن
للجصاص
· قَوْله تَعَالَى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) قَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ
فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا... لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ
الْمَسِّ بِالْيَدِ وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْجِمَاعِ وَبَعْضُهُمْ... وما ذكرناه من الدلالة يقتضي أن مراد الآية هو الخلوة دون الجماع،
فأقل أحواله أن لا يخص به ما ذكرنا من ظواهر الآي والسنة وأيضا لو اعتبرنا حقيقة
اللفظ اقتضى ذلك أن يكون لو خلا بها ومسها بيده أن تستحق كمال المهر لوجود حقيقة
المس، وإذا لم يخل بها ومسها بيده خصصناه بالإجماع وأيضا لو كان المراد
الجماع...
· قال أبو بكر: قوله تعالى: (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) متشابه
لاحتماله الوجهين اللذين تأولهما السلف عليهما...
· وزعم بعض من احتج لمالك أنه لو أراد الزوج لقال (إلا أن يعفون أو يعفو
الزوج) لما قد تقدم من ذكر الزوجين، فيكون الكلام راجعا إليهما جميعا، فلما عدل عن
ذلك إلى ذكر من لا يعرف إلا بالصفة علم أنه لم يرد الزوج. قال أبو بكر: وهذا الكلام
فارغ لا معنى تحته؛ لأن الله تعالى يذكر إيجاب الأحكام تارة بالنصوص، وتارة بالدلالة
على المعنى المراد من غير نص عليه، وتارة بلفظ يحتمل للمعاني وهو
في بعضها أظهر وبه أولى، وتارة بلفظ مشترك يتناول معاني مختلفة
يحتاج في الوصول إلى المراد بالاستدلال عليه من غيره وقد وجد ذلك كله في القرآن.
استنتاج
-
من
بين المصطلحات الدلالية الواردة في تفسير لأبي بكر الجصاص للآية ما يأتي: النصوص
والمشترك والظاهر ومفهوم الأولى والحقيقة والاقتضاء والدلالة على المعنى.
-
عبر
لفظ المتشابه في قوله: (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح متشابه لاحتماله الوجهين)
بمعنى المشترك.
-
استعمل الجصاص مصطلح الأظهر
الذي يقابل الظاهر لترجيح اختياره الفقهي على باقي الأقوال الأخرى كما استعمل الرازي
وقد سبقت الإشارة إلى هذا مما سبق.
-
عبر
الجصاص على بعض المصطلحات الأصولية بمعاني اصطلاحية، مثاله: (وتارة بلفظ مشترك
يتناول معاني مختلفة...) و (وإذا لم يخل بها ومسها بيده خصصناه بالإجماع...)
-
قال:
(الدلالة على المعنى المراد من غير نص عليه) المستفاد من هذه العبارة إشارته إلى
دلالة مفهوم الخطاب وبالأخص دلالة النص.
المذهب الأثري
تفسير القرآن العظيم لابن كثير (ت774ه)
· وهذه الآية الكريمة ﱡوَإِن
طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ .. ﱠ مما يدل على اختصاص المتعة بما دلت
عليه الآية الأولى حيث إنما أوجب في هذه الآية نصف المهر المفروض، وإذا طلق الزوج قبل
الدخول، فإنه لو كان ثم واجب آخر من متعة لبينها لا سيما وقد قرنها بما قبلها من اختصاص
المتعة بتلك الحالة والله أعلم.
· (الذي بيده عقدة النكاح) وهذا يقتضي صحة
عفو الولي، وإن كانت رشيدة، وهو مروي عن شريح. لكن أنكر عليه الشعبي، فرجع عن ذلك...
استنتاج
-
أغلب
ما عرض أبو الفداء ابن كثير أنه يكتفي بذكر المعنى اللغوي للدلالة الواردة
في تفسيره، وهو الأكثر ما وجدت في تفسيره لهذه الآية، ولكن في بعض الأحايين يخدم
دلالات أصولية من أجل إبراز معنى الآية مثل في قوله: (الذي بيده عقدة النكاح) وهذا
يقتضي صحة عفو الولي، وقوله: وهذه الآية الكريمة ﱡوَإِن
طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ .. ﱠ مما
يدل على اختصاص المتعة.
الملاحظات من خلال
ما عرضنا سابقا
- يكثر في كتب المفسرين التوسع في استعمال
المصطلحات التي تتميز في الحقل الأصولي بمعنى معيَّن.
- الاعتبار التاريخي غير مؤثر في الالتزام
بالمعاني الاصطلاحية لألفاظ الدلالات.
- بعض كتب التفسير يندر فيها حضور مصطلحات
الأصول في كشف دلالة الآيات، كما هو الشأن في تفسير ابن كثير وبينما في
التفاسير الأخرى مثل الجصاص والكياالهراسي وابن العربي وابن الفرس وغيرها كان
استعمال هذه الدلالات الأصولية حاضرة في أغلب الأحيان، وهذا يرجع إلى غرض
المفسرين كيف يتناول تفسير الآية ومنهجهم في كتبهم.
- مصطلحات العموم والتخصيص والتقييد والإطلاق
والحقيقة تُستعمَل في المعاني الاصطلاحية في علم أصول الفقه في أغلب كتب
التفاسير.
No comments:
Post a Comment