مشروعية علم المنطق
من المعروف أن مادة المنطق،
في شكلها الأرسطي على الأقل، وهي مادة دخيلة بالنسبة للعالم العربي الإسلامي.
هذان العاملان اللذان ذكرناهما سابقا جعلا الفقهاء وعامة الناس ينفرون من المنطق
ويصدرون فيه فتاوي تصل أحيانا إلى حد تحريمه، سواء كان بالمشرق أو بالمغرب
مثل: فتاوي ابن الصلاح وابن تيمية ضد الاشتغال بالمنطق ومعروفة كذلك بالغرب
الإسلامي مواقف ابن جبير وابن قسوم المعادية للفلسفة والمنطق.
وكم من مفكر لقي حتفه نظرا لتعاطيه للفلسفة
وللمنطق، حوكم ابن خمسين، واضطر الآبلي إلى الفرار، وحصلت نكبة ابن
رشد لأسباب؛ أهمها تعاطي هؤلاء المفكرين للفلسفة وترجيح المعقول على المنقول.
لقد كانت علاقة المنطق بالدين
علاقة صعبة منذ ترجمة كتب أرسطو في القرن 9 م. في هذه الكتب عرض أرسطو المنطقَ
كمقدمة للفلسفة. وبما أن الفلسفة شر حسب الرأي السلفي، فإن المنطق أيضا لا يمكن
أن يكون إلا شرار.
وبهذه السذاجة تم إبعاد المنطق من حظيرة الفكر
الإسلامي لمدة غير قليلة. وهل كان الأمر كذلك كما ذكرنا؟! ولننظر إلى زاوية أخرى، نجد
أن علم المنطق قد استطاع أن يشق طريقه عبر كل العراقيل الفقهية بفضل علماء أجلاء الذين
أدركوا كنه العلم واستغلوه بذكاء في بناء مناهجهم المعرفية. وبذلك عمموا معيارية
المنطق لتشمل كل المعارف البشرية بما فيها المعارف الدينية. فلم يعد المنطق مقصورا
على الفلسفة وحدها، بل يمكن اعتباره مدخلا لكل العلوم البشرية[1].
ومع ذلك،
اختلف المناطقة ومن يشتغل بهذا الفن في اعتبار المنطق هل كان جزءا من الفلسفة أم
أنه مدخلا له؟ أو بعبارة أخرى هل كان علما أم أداة للعلوم. والكلام في هذا يرجع
إلى ثلاثة أراء وهي حاصلة ومستخلصة بين الرواقية والمشائية وأتباع الأكاديمية
الجدد.
فأما الرواقية فيعتبرون
المنطق جزءا من الفلسفة، فقد كان هؤلاء يشبهون الفلسفة بكائن حي، وكانوا يقولون:
"إن المنطق بمثابة العظام والعضلات، والفزياء بمثابة اللحم، والأخلاق بمثابة
الروح"[2].
وجاء المشائية بخلاف
ما جاء الرواقية يرى أن المنطق هو بمنزلة التوطئة أو الآلة، ومن أجل ذلك جاءت
تسمية الأرغانون التي اشتهر بها منطق أرسطو، وإن كان الرجل لم يستعمل قط هذه التسمية.
لكن الأكادميين الجدد
جاءوا برأي يتوافق الرأيين السابقين وبالتالي يكون المنطق مدخلا إلى الفلسفة وفي
نفس الوقت جزءا منه[3].
ويرمي فهمي جدعان وإبراهيم أن من يحاول أن يجمع بين الموقفين الأرسطي والرواقي
بالغموض، لأن عموما الفلاسفة المسلمون قبل ابن سينا إما لم يكونوا على وعي
بالاختلاف الذي حصل أم أنهم تبنوا موقفا غير محدد. لنتأمل ما قال الحكماء المسلمون
حول المنطق وموقفهم حوله:
المنطق عند الخوارزمي الكاتب (ت385ه)
يذهب الخوارزمي الكاتب إلى أن المنطق جزءا ثالثا من الحكمة،
ومنهم من جعله جزءا من أجزاء العلم النظري ومنهم من جعله آلة للفلسفة، ومنهم من
جعله جزءا منها ومنهم آلة لها[4]. الخوارزمي هنا، وإن لم
يحدد من المعني بكل موقف من هذه المواقف هذه الأربع فإنه يشير إلى الآراء الحكماء
المختلفة حول حقيقة المنطق ومكانه.
المنطق عند الفاربي (ت 339هـ)
قال: (إن القوانين المنطقية التي هي آلات يمتحن بها في
المعقولات ما لا يؤمن أن يكون العقل قد غلط فيه أو قصر في إدراك حقيقته تشبه
الموازين والمكاييل التي يمتحن بها كثير من الأجسام ما لا يؤمن أن يكون الحس قد
تحير أو غلط في إدراك استقامته)[5].
فكأن تشبيه الفاربي المنطق بالآلة وتمثيله له بآلات الكيل
والقياس أوفى بالغرض وبالنظر إلى كونيتها.
المنطق عند ابن سينا (ت
427هـ)
يرى ابن سينا والذي استفاد من أعمال الفاربي من كتابه
وبالتحديد باب التوطئة إلى علوم إلى العلوم والصنائع المنطقية وحاول أن يقلل
الخلاف الذي يدور بين الموقفين الرواقيين والمشائين حيث قال:
(ألا تتناقض بين من يجعله جزءا وبين من جعله آية... فكون
المنطق جزءا يكون أعم من كونه آلة... فكون المنطق يكون أعم من كونه آلة، وليس هو
جزءا من الشيء الذي هو آلة له، فإنه ليس جزءا لما هو آلة له وهي التي تكال بالمنطق
وتوزن بالعبارة...وليس افتراق كونه جزءا وكونه آلة افتراقا بمعنيين متباينين على
الإطلاق، بل بمعنيين أحدها أخص والآخر أعم...)[6].
المنطق عند الغزالي (ت 505هـ)
اعتبر الغزالي المنطق هو الميزان
المعرفي، والمعيار الفكري، والمحك النظري، كل ذلك لأنه من النطق، والنطق غاية
ما يبلغ إليه الإنسان وبه يتميز عن سائر الحيوان: (الانسان لا يبلغ غايته إلا
بالنطق، ولو تمكن البلوغ إلى أقصى السماوات العلوية بشيء سوى النطق، لكان الخطاب
الباري وتكليف الشرع، وإقرار العبودية، وتصديق النبوة، وإثبات الربوبية متعلقا
بذلك الشيء. فلما توجبت هذه المعاني على النطق، علمنا أن الإنسان ما تميّز من
الحيوانات إلا بالنطق)[7].
فكما أن الإعراب لا يتميز
صولبه وخطأه إلا بالنحو، زكما لا يعرف منزحف الشعر عن موزونه إلا بالعروض، فكذلك
العلوم النظرية لا يعرف المنهج إليها والدليل إليها والصدق في نتائجها إلا
بالمنطق. فالمنطق ضروري لأن جدواه تعم جميع العلوم النظرية سواء أكانت هذه عقلية
أو شرعية: (إنا نعرفك أن النظر في الفقهيات لا يباين النظر في العقليات في ترتيبه
وشروطه وعياره، بل مآخذ المقدمات)[8].
والغزالي لثقته بالمنطق تحمس
له وطبقه على جميع المعارف وأدخله في الشرعيات، ومارس من خلاله الرأي والاجتهاد
خاصة في التفصيلات التي تحسم بنص قاطع: (فأقول: قواعد العقائد يشتمل عليها الكتاب والسنة،
وما وراء ذلك من التفصيل، والمتنازع فيه، يعرف الحق فيه بالقسطاس المستقيم. وهي الموازين
التي ذكرها الله تعالى في كتابه، وهي خمسة)[9].
والغزالي يرى أن علم المنطق
ليس علما غريبا على مفكر الإسلام، ومقصورا على الفلاسفة الذين حذوا حذو الفلاسفة
اليونان، وإنما هو علم له أصل في علم الكلام الإسلامي، وعرفه المتكلمون بصورته
المخالفة للصورة اليونانية: (ولكن المنطق ليس بهم (أي الفلاسفة)، وإنما هو الأصل
الذي نسميه في فن الكلام كتاب النظر فتغيروا إلى المنطق تهويلا، وقد نسميه كتاب
مدارك العقول فإذا سمع المتكايس المستضعف اسم المنطق ظن أنه فن غريب لا يعرفه
المتكلمون ولا يطلع عليه إلا الفلاسفة.[10]
ومن جهة أخرى، يرى الغزالي أن
المنطق أو الميزان تعلمه من القرآن واستخرجه منه: (لا يتصور أن يفهم ذلك الميزان
ثم يخالف فيه أهل التعليم لأني استخرجته منه وتعلمته منه)[11].
هذا العلم الذي يرى الغزالي
أنه استخلصه بالتأويل للآيات القرآنية هو من الأهمية بمكان حيث لا يدخله الغزالي
كمعيار للعلوم الكسبية فحسب، بل يفسح له المجال حتى العلوم الكشفية (الصوفية). ففي
كتاب الإحياء حدد الغزالي خمسة عوامل تسهم كلها في منع الكشف وحجبه: (الخامس: الجهل
بالجهة التي يقع منها العثور على المطلوب فإن طالب العلم ليس يمكنه أن يحصل العلم بالمجهول
إلا بالتذكر للعلوم التي تناسب مطلوبه حتى إذا تذكرها ورتبها في نفسه ترتيباً مخصوصاً
يعرفه العلماء بطرق الاعتبار (أي الطرق المنطقية) فعند ذلك يكون قد عثر على جهة المطلوب
فتنجلى حقيقة المطلوب)[12].
فالمنطق هنا لعب دورا مع
الصوفي قبل الكشف أي في التمهيد له، أما بعد الكشف فيمكن للمنطق أيضا أن يشرح ما
أمكن من هذه الكشوفات والإلهامات وتمييزها عن الخيالات.
وتكون هذه الأهمية أكبر وأغنى
في النقاش الذي دار بين الغزالي والفلاسفة المشائين ركز فيه الغزالي على البيان
فساد الأساس الذي بنى عليه الفلاسفة منظوماتهم الفكرية، بغض النظر عن بعض النتائج
التي وجدها الغزالي متعارضة مع بعض أصول الدين[13].
إن الفلاسفة في نظر الغزالي،
لم يفوا بشروط البرهان المقررة في المنطق. والكتاب الذي خصصه الغزالي لهذا الغرض
وهو تهافت الفلاسفة، ذلك المنطق كما يرى الغزالي ليس مخصوصا بالفلاسفة، وإنما هو
آلة عامة صالحة لكل ناظر في المعقولات، لأن قوانين الفكر الأساسية التي يعبر عنها
المنطق، تشمل جميع العقول[14].
المنطق عند ابن رشد
الحفيد (ت 595ه)
لم يكن ابن رشد ينظر إلى
المنطق من أجل ذاتها وبمعنى آخر من أجل التوسل بها في معرفة الموجودات، من جهة ما
هي طاعة وعبادة وامتثال. وكما يتصور في فصل المقال علوم منطق آلة ولكن الحقيقة ليس
هو كذلك ولم يكن المنطق أدوات محايدة مثل ما جاء به الغزالي وإنما ينظره كصناعات
وعلوم قائمة الذات. وقوله المنطق هو الآلة هو شيء يؤدي إلى شيء ما، شيء يعتمد
عليه، وموثوق به، إنها أداة يعول عليها. وكما أنه يرى أن المنطق مثله مثل آلة
التذكية، وأما شروط آلة التذكية فليست واحدة في نظر العلماء فقد يتفق الجميع على
الحدة والنظافة بمعناها المطلق... فلينظر هذه المسألة في بداية المجتهد في
"باب التذكية"[15].
المنطق عند أبي
المواهب الحسن بن مسعود اليوسي (ت 1102ه)
وأما المنطق فهو العلم الباحث
عن المعلومات التصورات والتصديقات من حيث التأدي بها إلى مجهول تصوري أو تصديقي،
وموضوعه المعلومات من تلك الحيثية ومنفعته تقويم الفكر عن الزيغ، وحراسته عن الخطأ
في المدارك، وناهيك بها فهو المعيار على العلوم كلها، ولذا قيل: من لا معرفة له به
فلا وثوق بعلمه. والعلم هو وصول النفس إلى المعنى، إما ضرورة أي بغير احتياج إلى
نظر، كعلم بحلاوة العسل المذوق، بأن الواحد نصف الإثنين. إما نظرا أي مع الاحتياج،
كعلم بحقيقة الإنسان وبأنه حادث، فإن كان المعلوم مفردا، أي عير حكم بين شيئين سمي
العلم تصورا، وإن كان نسبة وحكما سمي تصديقا. ثم ما كان منهما ضروريا لا يحتاج إلى
موصل وما كان نظريا منهما فهو محتاج....[16]
وإذا ما تأملنا في هذه الصناعة من خلال الوقوف عند الحقيقتين
التاريخيتين:
أولاهما: أن ممارسة المنطق استمرت
إلى فترات متأخرة من زمان العطاء الإسلامي وساهمت في توسيع أبوابه وترتيب قوانينه.
وثانيهما: أن تأثير هذه
الممارسة انتقل إلى قطاعات أخرى من المعارف الإسلامية غير قطاع الفلسفة، وخاصة ما
كان منها داخلا في باب علوم الوسائل مثل علوم أصول وعلم الكلام وعلم اللغة.
وجدنا أن حقيقة الأمر ليس كما
ذكرنا سابقا، وكما نجد نخبةً من كبار علماء الإسلام انتصروا للمنطق ونهضوا بأقوى
الأدلة لبيان فوائده للعلوم الإسلامية وعلى رأسهم فقهاء وأصوليون، وجاءوا بهذه
النصرة من الوجه ذاته الذي بنى عليه خصوم المنطق أدلتهم ليكون ذلك أضمن لتقلبها
وأحث على العمل بها[17].
إسهامات علم المنطق في تطوير العلم
وكما عرفه الدكتور طه عبد الرحمن يساهم علم المنطق بمقتضيات
التقريب في مجال ما، وذلك من أهم مقتضيات التقريب في هذا العلم ثلاثة: (التبيين)
و(التحييد) و(التفقيه).
أما التبيين فقد
اختص ابن حزم في كتابه القريب لحد المنطق بإبراز دوره في الممارسة المنطقية
وفوائده لها، متى قامت بشروطه كاملة، وذلك بأن وضع للمنطق تعريفا ينص على المقتضى
وهو أنه: معرفة وقوع المسميات تحت الأسماء من جهة وبأن بنى تبيين المنطق على
عمليتين هما: شرح المستغلق ورفع المستغرب (رسالة ابن حزم ج4 ص 94).
وأما التحييد والتفقيه
فقد تناول تحرير وظيفتهما في تقريب المنطق الإمام الغزالي في كتبه منها: كتاب
المستصفى وشفاء الغليل ومعيار العلم ومحك النظر والقسطاس المستقيم والمنقذ من
الضلال. وذلك بأن وضع للمنطق تعريفا يتسع لقوانين العقليات والفقهيات معا. وهو أنه
معيار للتفريق في كل نظر بين صحيح الأدلة وسقيمها.
ومقتضى التقييد
هو ينبني على عمليتي تبرئة المنطق وتخطئة المنكرين، فتبرئة المنطق
هو كون المنطق لا يتعرض من حيث أصله وحقيقته للأمور الدينية لا بالنفي ولا
بالإثبات وإنما هو علم من علوم الوسائل في ترتيب الحدود وترتيب الأدلة، فلا شأن له
بالحكم إيجابا وسلبا. وتخطئة المنكرين مرادها فساد دليلهم العقدي وإلى ما
ترتب على إنكارهم من نتائج المضرة بالدين، فدليلهم فاسد لأنه يعارض حقيقة ثابتة
وهي أن المنطق كوسيلة لا تعلق بالدين كمقصد.
أما تفقيه المنطق
فينبني على علميتي إدخال المنطق إلى علم أصول الفقه وإدراج النموذج
النظري الفقهي في النصوص العقليات.
فإدخال المنطق إلى علم أصول
الفقه اقتضى من الغزالي أن يؤسس حدود الفقه وبراهينه على
آليات المنطق كتطبيقه للأقيسة الحملية والشرطية بصنفها الاقتراني والاستثنائي على
المسائل الفقهية وصوغه لقياس التمثيل على مقتضى نظام القياس البرهاني معتبرا أن من
لا يحيط بالمنطق فلا ثقة له بعلومه أصلا.
وإدراج النموذج النظري
الفقهي في النصوص العقليات يتجلى في كون الغزالي جعل الركن المتكرر في القياس
البرهاني وهو الحد الأوسط بمنزلة العلة الفقهية وصاغ قواعد هذا القياس على مقتضى
هذه العلة، وكا أنه جعل الأقيسة المنطقية موازين كموازين الشرع واستخدمها في كتبه
الخاصة بالعقليات مثل مقاصد الفلاسفة والقسطاس المستقيم ومحك النظر ومعيار العلم.
ولقد جاء
ابن حزم والغزالي نصب نفسه للدفاع عنه من حيث حاجمه الخصوم، ويتبين من خلال ما
عرضنا سابقا أن علم المنطق يوافق مجال التداول الإسلامي سواء من جانبه اللغوي
(التبيين) أو من جانبه العقدي (التحييد) أو جانبه العقلي (التفقيه)[18].
ملاحظات
وحاصل الكلام هو أن المنطق
كما أراده واضعه وكما مارسه المحدثون آلة للعلوم النظرية، ولو أنه خاض في قضايا
علمية، لأن هذا الخوض لا يخرجه عن وصفه النظري ولا هو كذلك يتعلق شيء منه بواقع
السلوك الحي.
فإذا ثبت
أن المنطق لا تعلق له بالعبارة اللغوية ولا بالمعتقد الديني ولا بالسلوك الحي،
وإنما غرضه حساب التصديقات النظرية بان بطلان مبدإ التشغيل الذي كان الباعث على
مناهضة المنطق مخافة التأثر على أهله في لغتهم وعقيدتهم وسلوكهم ولا سيما نسبة
أصحاب المنطق إلى إحداث الابتداع والاعتراض إلى الاستنكار بل إلى التحريم، وإنما
كل ما أصاب المنطق وأهله جاء من مبدإ التشغيل الذي كان ينظم الممارسة الإسلامية
للمنطق داخل المجال التداول الخاص بالعلوم العقلية. وبالتالي انحسمت الاعتراضات
ووضوح الحق، وانتزع المنطق مشروعيته واستعاد مكانه بين العلوم الإسلامية الصحيحة
والنافعة[19].
No comments:
Post a Comment