Sunday, November 13, 2016

تحقيق السرور في بيان أنواع الجار والمجرور

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي جرّ عباده من النعم، وخفض الكفّار في جهنم، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه خير الأنام، وآله ذوي الكرام، ورضي الله عن أصحابه أولي الهمام.
وبعد،
       وقد سألني أحد أصدقائي مسألة استشكلت عليه في حكم الجار والمجرور، وبدى لي أن أكتب له رسالة مبينة لما غمض عليه من الأمر، فأقول: إن الجار المجرور في النحوي العربي له حكم خاص يتناول فيه العلماء ويجوز فيه فيما لا يجوز عن غيره، وكذلك أخته الظرف لأن حكمهما متشابهان، حتى شبّهه بعض النحويين في سوس كأنه الحاج صاحب الفريضة لأركان الإسلام الخامس الذي في عادتهم له عذر كما لا يُعذر لغيره.
ما الفرق بين الجر والخفض؟ الجواب عنه أنهما شيء واحد، وإنما الاختلاف في المصطلح، فالجر مصطلح بصريٌ والخفض مصطلح كوفيٌ.
والخفض لغةً: هو التسفّل أو النقيض، وفي اصطلاح: تغيرٌ مخصوص علامته الكسرة أو ما ناب عنها، ولا يكون الخفض إلا في الاسم، نحو: تأّلمتُ من الكسولِ. (يُنظر التحفة السنية بشرح الأجرومية)
واعلم يا الأخ الكريم لحروف الجر أنواع ثلاثة: ما يعمل عملا أصليا وما يعمل عملا زائدا وما يعمل عملا أصليا ولكن شبِه بالزائد.
النوع الأول:
ما يعمل عملا أصليا فهو ما يدلّ على معنى في غيره ويحتاج إلى المتعلق. وحروفه نحو: من وإلى وعن وعلى وفي ولباء والكاف واللام وغير ذلك.
كأن تقول:
(سِرْتُ من الرباط إلى الدار البيضاء) و(سرت) فعل ماض مبني على الفتحة، و(ت) فاعل مرفوع مبني لأنه ضمير، و(من الرباط) جار ومجرور متعلق ب(سرت) ومن معاني (من) ابتداء الغاية في الزمان أو المكان،
و(إلى الدار البيضاء) جار ومجرور متعلق ب(سرت) ومن معاني انتهاء الغاية في المكان أو الزمان.
وقوله تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) سورة آل عمران: 160. وقوله تعالى: (إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) سورة آل عمران: 154.
وقول الشاعر:
قد استوى البشرُ على العراق # من غير سيفٍ ودمٍ مُحراقٍ
وكذلك قولك: (الماء في الكوز) ف(الماء) مبتدأ مرفوع وعلامته ضمة مقدرة في آخره لأنه اسم مفرد، و(في الكوز) جار ومجرور متعلق بمحذوف وجوباً وهو في محل رفع على أنه خبرُ مبتدأ، وتقدير المحذوف كائن أو استقرّ.
تنبيه:
 وإن كان الخبر لمبتدأ جارا ومجرورا أو ظرفا وجب حذف الخبر وقُدّر الخبر المحذوف اسما أو فعلا: نحو كائن أو استقر، فإن قدرت (كائنا) كان من قبيل الخبر بالمفرد، وإن قدرت (استقر) كان من قبيل الخبر بالجملة (ينظر شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك). وقد أشار ابن مالك في خلاصته مشيرا إلى هذه المسألة:
وأخبروا بظرف أو بحرف جر # ناوين معنى كائن أو استقرّ
وكذلك الإمام الزواوي أشار في أرجوزته:
بكائن مقدر أو استقر # في صفة أو صلة أو في الخبر
أو حال استقر عيّنْ في الصلة # إذ لا تكون غير جملة
فليرجع إلى المرشد الآوي ومعين الناوي في لفهم قصيدة الزواوي لأبي زكريا يحي بن محمد البعقلي.
وقال المجردي في لاميته:
وكل حروف الجر بالفعل علقت # أو اسم كشبه الفعل حيث تنزّلا
أو اسم بشبهه الفعل أول أو بما # يشير إلى معنى المشابه فافضلا
النوع الثاني:
ما يعمل عمل الزيادة؛ لا يحتاج إلى متعلق أي ممكن حذف حرف الجر دون تأثير في معنى الكلام ومعنى حروف الجر الزائدة أنها تعمل عمل حرف الجر في الإعراب ولا يشكل على المعنى. وبالمثال يتضح المقال:
المثال الأول:
(ما جاءنا من أحدٍ) وتقدير الكلام: ما جاءنا أحدٌ. وحرف الجر لما دخل من في الجملة لا تعمل عملها مؤديةً لمعنى ابتداء الغاية أو للتبعيض ولكن أثار في الإعراب. ولو كانت حركة الإعراب تكون مجرورا ولكن في حقيقة الأمر أن الفاعل هو (أحد) لأنه مُقدّر بحركة من زائدة. والفرق بين ما جاءنا من أحد وما جاءنا أحدٌ فإن في الجانب البلاغي الجملة الأولى تفيد التوكيدَ بحيث إنها تنفي المجيء.
المثال الثاني:
(بحسبك درهم) (الباء) باء زائدة و(حسبك) مبتدأ مجرور بالباء الزائدة وعلامة رفعه ضمة مقدرة في آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المجلوبة بالحرف الزائد و(درهم) خبر المبتدأ.
المثال الثالث:
يقول عزّ وجل: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) سورة الشورى:11.
(ليس) فعل ماض ناقص، و(كمثله) الكاف: حرف جر زائد، (مثله) خبر ليس فهو مجرور لفظا ومنصوب محلا، (شيء) اسم ليس مرفوع بالضمة.
المثال الثالث:
قوله تعالى في سورة المائدة: (وامسحوا برءوسكم وأرجلًكم). وعند المالكية أن الباء في هذه الآية تدل على حرف جر زائد لذلك يجب عليهم مسح جميع الرأس، بيد أن الشافعية نظروا هذا الباء تدل على حرف الجر الذي يعمل عمله أصليا وتفيد معنى التبعيض ويجوز عليهم مسح الرأس بعضه أو جزء منه.

النوع الثالث:
ما يعمل عملا شبيه بالزائد وله الخاصية التي تميزه بالقسمين السابقين وهو أنه لا يدخل إلا في الاسم الظاهر، وعدد حروفه محددة وهي ستة أحرف: لولا ولعل وكاف التشبيه ورب وما والباء.
جمعها الشيخ المجردي في لاميته بقوله:
سوى ستة لولا لعل وكافها # ورب وما قد زيد كالبا ومن جلا
وكذلك أشار الإمام الزواوي في أرجوزته:
بما كفعل علقنه واستقل # ما زيد لولا كاف التشبيه لعل
فالفتح والكسر للامها الأخير # والحذف للأول والثبت الكثير
وإنما جر بها عقيل # كذاك لولا جرها قليل
ومثال على هذا النوع نحو قولك:
(ربّ رجلٍ كريم لقيته) و(رب) جار ومجرور غنيٌ عن التعلق لأنه من الستة التي لا تتعلق بالشيء، (رجل) اسم المجرور برب، (كريم) نعت لرجل، (لقيتُه) فعل وفاعل.
فائدة:
(رب) قد تكون بمعنى التقليل وقد تكون بمعنى التكثير والسياق يتحكم في تحديد معنى رب، وقد جمع أحد الفضلاء شروط رب وإعماله في الجملة معانيه من التقليل أو التكثير.
خليليّ للتكثير رب كثيرة # وجاءت للتقليل ولكنه يقل
وتصديرها شرطٌ وتأخير عامل # وتنكير مجرور بها هكذا نقل
ومن معنى رب التقليل قال الشاعر:
ألا رب مولودٍ وليس له أب # وذي ولد لم يلده أبوان
الأول المراد به عيسى عليه السلام والثاني سيدنا آدم عليه السلام.
وبالله التوفيق لقد تم تسويد كتاب تحقيق السرور في بيان أنواع الجار والمجرور. كتبه الراجي عفو ربَّه إزهام حكيمي برباط الفتح المغرب، في يوم الجمعة الموافق 11 نوفمبر 2015م.


No comments:

Post a Comment